العرض في الرئيسةفضاء حر

من ارشيف الذاكرة (6)

يمنات

أحمد سيف حاشد

الوجه الآخر لأحداث 13 يناير 1986

(7)

كريتر مقسومة بين فريقين

ظلت الأخبار التي تتوارد وتصل من “فتح” التواهي إلى كريتر تتضارب حتى وصلنا إلى خلاصه أن الوضع بين الفريقين قد أنفجر..

ونحن مجفلين سمعنا انفجارات بعيدة.. شاهدنا أناس يتوافدون ويتسلحون من مبنى يقع خلف بريد عدن.. شاهدنا الطابور يزداد ويزدحم أمام المبنى .. أردنا أن نتسلح دون أن نعلم هذا التسليح تابع من!! رأينا أنه لابأس أن نتسلح أولا لحماية أنفسنا وبعدها سيكون لنا موقف وكلام.

وفي الطابور شاهدت جعفر المعيد في كلية الحقوق يستلم سلاحاً وذخيرة.. تصافحنا.. ثم شاهدت أحد أقاربي في الطابور المزدحم.. فهمت أن هذا المركز تبع أنصار فتاح وعنتر.. فيما كان معسكر عشرين المركز الرئيس للمليشيا الشعبية في نفس كريتر تابع الولاء لعلي ناصر ويبعد بحدود كيلو متر واحد من المركز الذي نستلم السلاح منه.

يا إلهي!! كريتر صارت مقسومة بين فريقين!! ثم عرفت أن “الباخشي” قائد المليشيا الشعبية في معسكر عشرين ولاؤه لفريق، فيما الأركان باسلوم ولاؤه للفريق الآخر..

يا إلهي !! ليست كريتر وحدها مقسومة قسمين ولكن أيضا القائد والأركان.

أستلمنا سلاح وذخيره واتجهنا إلى عزبه فيها أصدقاء قريبة من نفس المكان وبعد قليل صعقنا البيان من الاذاعة وخلاصته محاكمة وإعدام عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع بتهمة الخيانة.

أغاضنا هذا البيان وكانت الصدمة كبيره.. تسألت: متى كانت الخيانة؟! ومتى تمت المحاكمة؟! ومتى تم تنفيذ أحكام الاعدام؟!

وكان السؤال الأهم من بدأ بإشعال الحريق؟!

كنت أعرف أن هناك ما يشبه العهد بين الفريقين في المكتب السياسي، وفي العهد أن من يبدأ باستخدام السلاح في حسم الخلاف خائن، ولكن يمكن للمرء اللبيب أن يستخلص أن في الأمر خدعة، وأن البادئ من نفذ الإعدام والبادئ أظلم.

(8)

“أمل” الحب في الحرب سلام وحياة

في العزبة التي لذت إليها كان قلبي قد تعلق منذ مدة بفتاة بالجوار.. إنها صدفة أن تجد نفسك في الحرب جوار من تحب..

فتاة لازلت زهرة دون الـ 18 عام بقليل.. كانت مراهقة وكنت ولوع برؤيتها كلما أمكن..

أذكر أنني كنت في زمن السلام أقف بعيدا وعندما تتسلق جدار حائطهم أندفع من بعيد نحوها لأرها وتراني فيما أحاول أن أداري شوقي ولهفتي أمام أصدقائي حتى لا يقطع الخجل مجيئي..

كنت أخترع عذرا لأصدقائي في العزبه في كل مرة أزورهم فيها، غير أن الهدف الحقيقي من مجيئي في كل زيارة هو أن أراها وتراني..

كانت فتاة جميلة.. كنت عندما آتي إلى عزبة الأصدقاء أحاول أن أرمقها إن مرت أمام النافذة.. وكانت زياراتي في بعض الأيام تحمل خيبة كاملة.. انتظرها فلا تطل ولا تمر..

كنت أتي إلى العزبة من بعيد من أجل أن أراها وأنا غارق بالشوق ولهفتي تسبق أنفاسي وخطواتي تتمرد على موانع وإيقاعات الضبط .. كتبت لها واستضفتها لاحقا وكان لنا قصة ولكنها لم تتم.

كان جمالها يافعي وسمرتها تحمل من الجاذبية سر وسحر وفتنة.. جميلة الروح وآسرة الطلعة.. وجهها ينضح بالوسامة الأخاذة في تفاصيله وإجماله.. كانت ممشوقة القوام وبهية وتنفذ للقلب كغيمة يملاها المطر.. إنها آية ليست مثلها آية..

كنت سعيد أن أجد نفسي في مكان قريب منها.. صارت تهمني أكثر من الحرب.. الحب في زمن الحرب قبس من نبوة السلام والحياة.. غير أن المسؤول على المنطقة المتمركزين فيها طلب منَا أنا وآخرين ترك المكان الذي نحن فيه والتوجه إلى سطح إحدى العمارات على الشارع الذي يمتد أمام البريد.. فيما جندي من أبناء ردفان أمره أن ينتقل إلى رأس المنارة التاريخية القريبة ليكون نقطة رصد ومراقبة.. كان جنديا شجاعا وكان الموت يتهدد حياته بالقنص.

(9)

“آه يا عيالي”

كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث 13 يناير1986مقارنة بغيرها حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع..

خلال هذه الأحداث لم أشترك في أي اشتباك أو قنص، ولم تخرج رصاصة واحدة من فوهة بندقيتي باستثناء مرة واحده للدفاع عن النفس في ليلة اليوم الثالث من الأحداث، حيث صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحام العمارة من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى مدخل كان يؤدي مباشرة إلى خلف العمارة “الجلِّي” وبدأت أطلق دفعات الرصاص نحوه، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.

بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس وتحديدا إلى شقة سالم معروف وهي قريبة من المصرف اليمني وسط كريتر على إثر مقتل شخص من فريقنا وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله ومن ثم المرابطة بالشقة التي أنتقلنا إليها.

وجدنا المقتول ممدا وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة ووجدنا جواره ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة القريبة من مركز البريد.. كان الردفاني موجودا جوار هذا الرجل الذي تم قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ” آه يا عيالي”

هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب في رأسي .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. ساحت الدموع من عيوني غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد دامي ومأساوي كهذا.

(10)

قذيفة مدفعية على بعد 50 مترا

كانت الاتصالات مقطوعة والماء أيضا.. شاهدت من نافذة الشقة الأطفال والنساء وهن يجلبن الماء ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدنا السكان يتكيفون مع ظروف الحرب ويعتادوها.. رأيت الناس يحاولون أن يشقّون في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..

كنت مرهقا حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت أنزع نتفا أخرى لأتأكد ما الأمر فوجدته بيدي دون أن أشعر بأنه كان نابتا في فروة الرأس.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة أصلعا وقلقت من احتمالية أن لا يعود الشعر المتهالك من جديد.

في الليل دوى انفجار قوى ولكنه كان في منطقة بعيدة نسبياً وبعد نصف ساعة دوى انفجار عنيف آخر ظنناه أنه أصاب العمارة المتواجدين فيها، وعند اطللنا من النافذة على الشارع وجدنا أنه انفجار قذيفة مدفعية أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن والذي لا يبعد عنا أكثر من مسافة خمسين مترا. أدركنا أن هناك تصحيح للإحداثيات، وتوقعنا أن تقع القذيفة الثالثة فوق رؤوسنا، ولكن رفق بنا القدر ولم يتم معاودة القصف تلك الليلة.

(11)

يوم اكتشاف نصف الحقيقة

يوم 18 يناير فريق ينتصر فيما الفريق الآخر يخسر المعركة.. الفريق المنتصر أطلق على المهزوم “زمره” فيما أطلق الفريق المهزوم على المنتصر مصطلح “طغمه” هكذا سمّى الرفاق بعضهم..

18 يناير كان يوما فارقاً.. من ألتحق بالفريق المنتصر يوم هذا التأريخ وبعده كان ينظر إليه أنه تحصيل حاصل لا يضيف شيئا لقائمة المنتصر، بل يرونه كمن ركب موكب الانتصار بدافع المصلحة، ولم يكن له أي دور في حسم المعركة أو تقرير مصيرها.. هكذا سمعت يومها المنتصرون يتحدثون.

تم نقلي إلى ساحة مكاتب خلف بريد عدن في تاريخ 18 يناير وكان هذا اليوم بالنسبة لي مختلف، حيث اكتشفت فيه نصف الحقيقة..

كان المنتصرون يعتقلون المهزومين والمشتبه بالانتماء لهم.. سمعت أصوات تستغيث وتطلب ماء من أحد الأماكن المغلقة الأبواب.. لم أكن أعلم أنه يوجد معتقلين.. لم أكن أعلم أن خلف الباب ناس يهددهم العطش بالموت.. فتح السجان الباب وكانت مفاجأتي بمشاهدتي الاكتظاظ.. من وقف لا يستطيع الجلوس مرة أخرى إلا بشق الأنفس بسبب الزحام الشديد وهذا الاكتظاظ المميت.. عندما تم فتح باب هذا المعتقل كنت كأنني أشاهد فتح علبة تونة أو علبة لحم مفروم .. يا إلهي ما هذا؟! شيء غير معقول.. شيء لا يصدق.. يا إلهي هل أنا في حلم أو علم.. الكل يستغيث يطلب ماء .. قطرات الماء هنا صارت كل الأمل لكل معتقل.. فتح بوابة السجن لبرهة ربما أيضا تنقذ البغض ممن يكاد يموت اختناقا.

ثارت انسانيتي داخلي.. إنه مشهد بالنسبة لي غير مألوف بل صادم وغير مسبوق وغير متوقع أنني يوما سأشهد مثله.. هرعت لأحضر لهم الماء.. كدت أعترك مع أحد السجانين الذين كان يمنعني أن أمكنّهم دبة الماء.. كان يحاول يمنعني بالقوة من أيصال الماء إليهم.. كان يقول لي : “هؤلاء أجبروا رفاقنا أن يشربوا من البلاليع”.. كنت نفسيا مهيّاً أن أفعل أي شيء من أجل أن أغيث هؤلاء بالماء.. كنت مهيا لكل الاحتمالات إن تم منعي بالقوة.. نعم كنت مهيأ نفسيا لأن أفعل أي شيء.. حتى من عارض إيصال الماء للمعتقلين كان يدرك مقدار انفعالي، ولذلك تمكنت من أيصال الماء إليهم.. نعم لقد نجحت وأوصلت الماء إلى المستغيثين.. أحسست أنني نجحت في رسالة تشبه رسالة نبي أغاث القوم دون أن يقتل أحد.. نجحت في إغاثة قوم محشورين في مساحة لا يزيد طولها وعرضها عن سبعة متر في سبعة..

كريتر صارت واحدة وبيد فريق واحد ولكن صار كل ما فيها ممزق.. جروح غائرة وموت وبكاء واعتقالات..

ثم شاهدت معتقلين جدد يأتون بهم إلى غرفة تحقيق تقع على مسافة قريبة.. سمعت وقائع محزنة عن كيفية الاعتقال من قبل من يقوم بالاعتقال.. كانوا يتفاخرون ببعضها.. كانت حملات التفتيش والمداهمات للبيوت على أوجها.. كنت أتفجر وأنا أسمع الحكايات.. هذا يداهمون بيته وينزعونه من مخبأه داخل دولاب في غرفة النوم، وهذا ينتزعوه من تحت سرير النوم.. وهذا من تحت الدرج أو من الحمام أو زاوية مهملة في البيت.. وكل هذا يتم وسط فجيعة الأهل وصراخ الأطفال.. تذكرت ذلك التفتيش الذي حصل يوم لبيتنا في القرية من قبل حمله أمنية بعد مقتل أخي وكان أخواني الصغار قد انزاحوا مجبرين إلى إصطبل البقرة والحمار ولكن ما أن انتهوا من تفتيش البيت حتى أتجهوا نحو أخواني الصغار في الاصطبل لتفتيشه وهو مستقل عن المنزل، فصرخوا أخواني بالبكاء الهلع والفجيعة.. صراخ جعل القائمين على الحملة يحجمون عن تفتيشه والاكتفاء بتفتيش منزل والدي ومنزل أخي المقتول.

أما التعذيب فسأفرد لمشاهداتي مكان يلي هذا مباشرة وهي بعض من نصف الحقيقة التي عرفتها فقط في يوم هذا التاريخ 18 يناير 1986.

(12)

تعذيب

في نفس اليوم 18 يناير 1986شاهدت معتقلين يجرونهم إلى غرفة التحقيق .. عرفت بعضهم من لهجتهم ولكنتهم وسحنتهم أنهم بدو من أبين وشبوه.. ثم كنت أسمع صراخهم ألما ووجعا.. شاهدت بعض المحققين يحملون “صمول” يضربون بها بعض المعتقلين بقسوة.. كانت مشاهد صادمة لم أتوقعها.. كانت مشاهد لا تخطر على بالي يوما أنني سوف أشاهدها جهارا نهارا عيانا.. وأين وضد من؟! أنها الأسئلة الأكثر وجاهة وإيلام..

كان المحققون يبحثون عن اعترافات سريعة يحتاجونها.. كان لوقع الضرب والعنف الذي مارسه المحققين مع بعض المعتقلين يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي “جرائم المخابرات المركزية الأمريكية” شاهدته في سينما “دار سعد” حالما كنت أدرس الثانوية، وهو فلم يتحدث بالصوت والصورة على انتهاكات فضيعه لحقوق الإنسان لنشطاء وسياسيين ومقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية والوسطى والمغرب العربي وغيرها.. كنت وأنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب أمنية بل وربما أمنية بعيدة المنال.. ها أنا اليوم أشاهد تعذيب حي وبأم عيناي.. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير..

أحدهم عرض علي أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق.. يا إلهي.. أيعقل هذا !! أنا أحلم أن أكون قاضيا أو محاميا وهذا يريد أن يحولني إلى جلاد.. يجب أن أغادر هذا المكان.. ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديق.. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد.. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية والأخر قيادي عسكري.. طلبت الأذن بالمغادرة وأردت تسليم سلاحي.. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي وذخيرتي وبالفعل حدث هذا وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة.. لم يفعلها أحد ولم أسمع بمنتصر سلم سلاحه وعاد إلى بيته.

نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون والنفعيون والانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر كنت أنا أسلمّ سلاحي وذخيرتي وأغادر ساحته إلى البيت.

(13)

تصفية حسن عبد الله الأعور

عدت إلى البيت.. تواصل بي حسن عبد الله الأعور، وطلب مني المجيء إلى منزله.. كنّا جميعا نسكن في حي الثورة “القلوعة” وكنت أزوره إلى منزله في معظم الأحيان.. كانت تربطني به علاقات صداقة واحترام وفضلا عن ذلك نحن من منطقة واحده في الشمال.

حسن عبد الله رجل مكافح واعتمد على نفسه في بناء نفسه.. تغلّب على عاهة فقدان النظر في أحدى عينيه.. حسن عبد الله مكافح وناجح بعين واحده.. وصل إلى رتبة رائد أو نقيب وشغل وظيفة النائب السياسي للمليشيا الشعبية في عدن ـ معسكر20ـ حسن عبد الله رجل كادح ومعدم بناء نفسه من الصفر والعدم.. كان يتميز بتواضعه الجم وكان أكثر ما يميزه أنه خدوم جدا لكل الناس الذين يقصدونه، ولا يحمل حقدا أو غلا على من يختلف معه في الرأي السياسي..

كان يتعامل معي باحترام فائق وكنت أكنّ له كثيرا من الود والتقدير والاحترام.

حسن عبد الله كان لديه عدد كبير من الأبناء الصغار أكبرهم لم يتجاوز الـ15 سنة فيما زوجته مصابه بمرض في القلب وتعيش على دواء دائم.. حالتها الصحية تزداد تدهورا..

كنت أشعر أنه في وضع صعب وأن نجاته من هذه الأحداث العاصفة ضئيل جدا.. كنت أشعر أن الانتقام الأعماء سيكون سيد الموقف بعيد عن أي عدالة أو قانون أو محاكمة حتى ولو كانت صورية.. تصوروا حتى المحاكم الصورية كانت مستحيلة وبعيدة المنال..

كان الموت باذخا واسترخاص دماء وحياة الخصوم حد الصفر من البخس.. كنت أشعر أن أبناؤه الكثر وجميعهم قاصرين سيكونون أيضا ضحايا جنون هذه الحرب التي عصفت بالرفاق.. كنت أشعر أن ثمة مأساة سيعشونها في قادم الأيام.

ذهبت إلى منزله.. حلّق بي الصغار كأنني سفينة نجاة وأنا أنشج في داخلي وأغالب حزني الكثيف وغصص مكتومة تذبح حنجرتي من الداخل.. شاهدت الأم مرعوبة من قدر سيأتي وهي تبكي مصاب فادح وجلل سيصيبها وعيالها، وهي تحمل جبل من الهم والأسئلة لزمن عبوس سيأتي، وترجو من الأيام الرفق بها من قادم ثقيل وأسود سواد هذه الأحداث الأشد من قاتمة والأكثر من قاتلة.

جو من الكآبة والحزن حاولت أن أغادره وزوجته تبلغني أنه في منزل لقريب في مكان قريب.. وجعلت من احد أبناءها دليلي لأصل إليه.

ألتقيت به.. أحسست بمأساته وكم من المآسي ستترك هذه الحرب.. عرضت عليه أن يأتي إلى بيتنا فربما هو أكثر أمانا، فيما المنزل الذي هو فيه ربما إن لم يكن بحكم الأكيد سيتعرض للتفتيش وسيتم اعتقاله ولا ندري ما بعد الاعتقال..

عرضت عليه أن يختبئ عندي إلى أن نجد مخرجا وما جرى له جرى علينا.. غير أنه أخبرني أنه تواصل بعبد الحافظ قائد ـ وكان من الشخصيات التاريخية الهامة في الحركة الوطنية وفي موضع احترام وتقدير لدى القادة السياسيين في الحزب والدولة وهو من الرجال القلة الممتلئين ـ وقال أنه عرض وضعه عليه فنصحه أن يسلِّم نفسه وهو سيتابع موضوعه.. هو أيضا فضَّل هذا الخيار على خيار استضافتي له في البيت.. ولكن كان للقتلة خيارهم وكان القتل منفلت الزمام، ولم يكن القتلة يعبئون بالعقل ولا بالاتزان فخاب تقدير حسن وتقدير حافظنا الطيب.

سلم حسن عبد الله نفسه للفريق المنتصر وتم إرساله لسجن “صبر” في محافظة لحج وبعد أسابيع أو شهور تم تصفيته مع كثير من المعتقلين.. وبقت قلوب وعيون أطفاله وزوجته معلقة تنتظر عودته سنوات طوال.. ظل أفراد أسرة حسن يترقبون كل يوم أن يطرق حسن الباب، وحسن كان قد غادر قسرا إلى اللا عودة واللا اياب.. عذاب يومي ثقيل ومؤلم ظلت أسرته تعيشه طيلة الليل والنهار ولسنوات طوال.

لم تقتصر مثل هذه التصفيات على طرف دون آخر بل كلا الطرفين تسابقا وأثخنا بالقتل إلى حد الجنون.. خيرة كوادر الحزب والدولة وكثير من الأبرياء كانوا ضحايا هذه الحرب اللعينة والمملوءة بالجنون.. كانت هذه الحرب بداية لهزيمة كبيرة لاحقه للحزب والجنوب والوطن في 1994.

في أحدث 13 يناير ارتكبت مجازر ومذابح مروّعة بعضها يشبه جرائم “داعش” اليوم . إننا قوم لا ندرك ما بلغناه من جنون القتل والدمار إلا بعد فوات الأون والندم.

(14)

خاله “خدوج”

ذهبت لزيارة خاله خدوج في المعلا.. ما أطيبها وما أطيب نساء عدن.. زوجها محمد قائد هاشم أو كما هو متداول محمد الحربي.. محمد هذا قريبي وتحديدا أبن عم أبي.. أخذه المنتصرون من بيته وغيبوه في محبس مغلق ومكتوم بالجدران، ربما يشبه ذلك المحبس الذي وقفت على بابه في كريتر، وكان المعتقلين محشروين فيه ككومة لحم، عطاشا حد الموت، ومخنوقين حد الكفر.

كان محمد يعاني مرض الربو.. مات اختناقا في محبسه.. ترك أطفالا صغارا وزوجه ثكلى معذبة بالفقدان والانتظار..

خاله خدوج تحمل من الحب لزوجها ما لا تحمله حاملة الأحمال في الأرض ولا تحمله سحابة غيث في سماء.. تزوجا عن قصة حب فيه كثير من العبور والتحِّدي.. لا أروع من قلب خاله خدوج ولا أطيب منه..

خاله خدوج مسكونة بطيبة وصبر أهل عدن.. ياااااه كم أهل عدن طيبين.. كم هم متسامحين.. كم هم لبعض عند الحاجة والشدة.. علاقاتهم سوية وغامرة بالبراءة.. متصالحين مع أنفسهم.. يحملون قلوب نقية كالكريستال.. صفحاتهم أبيض من ندف الثلج..

أهل عدن الصابرين على كل الشرور التي قذفتها الرياح في وجوههم أو صبتها الأقدار على رؤوسهم.. كم جنى المتوحشون على عدن وأبناءها الطيبين من الآحزان والآلام والمآسي العراض.

ما أشد وأقصى أن يأخذونك من بين أطفالك وأحضان زوجتك ثم يغيبونك عن جميع من يحبك ويقطعون كل أخبارك عنهم وعن عالمك الصغير .. يغيبونك للأبد دون أن يقطعون رجاء عودتك إلى أطفالك وزوجتك.. كم يتعذب من ينتظر رجاء من وهم أو أمل من سراب..

كم تتعذب الزوجة عندما يقذف القدر بحبيها للمجهول لمجرد رأي أو موقف يراه صاحبه إنه صواب ثم تظل تنتظره شهور وسنوات، وربما بقية العمر مصلوبة على جدار الانتظار.. إنه عذاب جحيمي طويل..

كثيرون هم الذين دفعوا أثمان أخطاء غيرهم.. كثيرون هم الضحايا.. كثيرون هم ضحايا الحروب والأطماع والتسلط والاستبداد.

(15)

المناطقية .. خراب على خراب

كانت للتعبئة المناطقية والجهوية دورا مهما في النتائج الكارثية لأحداث13يناير.. كنت أسأل نفسي كيف لفضاء الأممية أن يصغر ويضيق إلى هذا الحد؟! لماذا تلك النخب القيادية تعدم فضاء كان يمتد إلى أمريكا اللاتينية وتستبدله بديم عصبوية أصغر من حلقة أصبع؟َ!

صعدت باصا للركاب من كريتر باتجاه خور مكسر وعلى طريق ساحل أبين صعد ثلاثة من طلبة الكلية العسكرية للباص الذي كان يقلّنا يبحثون عن بطائق الهوية، وعندما تموا التحقق من الهويات أعتذر أحدهم بالقول: “آسفين نحن نبحث عن أصحاب شبوة وأبين”..

لقد كان القتل والاعتقال يتم بحسب بطاقة الهوية.. لقد كانت الهوية وليس الجرم من يحدد حقك في الحياة من عدمه.. صار الاعتقال والموت يختاران ضحاياهم بحسب البطاقة والمحافظة.

تم تصفية كثير من رفاقي وزملائي في لواء الوحدة لمجرد انتماؤهم فقط إلى الشمال أو إلى مناطق الضالع وردفان ويافع وكان بعضها قد تم بطريقة مروعة.. وفي المقابل حدثت أفعال انتقامية من الطرف الآخر لا تقل مأساة وترويع عن ما أرتكبه الفريق الأول.

لماذا تم تصفية المساعد عبده علي والمساعد حسن ابراهيم والمساعد البرح من أبناء الشمال.. لماذا تم تصفية صديقي محمود سالم من يافع والملازم نصر من ردفان والملازم الحياني من إب والعفريت وزيد وعلوان من التربة والعشرات من أمثالهم..

لماذا قتلوا الفنان عثمان.. الفنان عثمان أرق من نسمة.. الفنان عثمان الصوت الطالع من أعماق الروح لماذا قتلوه؟! هذا الذي غنّى للشاعر أيمن أبو الشعر بلحن وصوت شجي وعميق:

علمني بوح جدار السجن أن ارادة رجل حر أقوى من قفل السجان

علمني قبر فدائي أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الايمان

وغنى أيضا :

لمن تمشطين شعرك الجميل يا يمن

ضفيرة صنعاء ضفيرة عدن

فكي شريط الشعر كي تصحو الخصل

لمن فرقت شعرك الرطيب يا يمن ؟

ضفيرة صنعاء

ضفيرة عدن

كلا الفريقين منتصر ومهزوم دفعا ثمناً باهضاً وفادحاً، وكانت خسارة الوطن أجل وأفدح، ولازلنا نعيش آثار هذه الأحداث إلى اليوم..

كل مساحيق التجميل التي جاءت باسم التسامح لم تنجح في ردم الشروخ العميقة التي تسببت بها هذه الأحداث.. ثم جاء الخصم أو العدو وأستفاد مما بقي في الوعي وما علق في النفوس من آثار وانقسامات وتناقضات وأعاد انتاجها، وأضاف إليها انقسامات وتراكمات جديدة وأعادت النخب القديمة انتاج نفسها لتأسس من جديد صراعات جهوية ومناطقية جديدة بل وعنصرية أيضا، وتم اضافت الافدح إلى ما هو فادح، وبني خراب على خراب..

زميل القاضي في لواء الوحدة1

محمد الحياني زميل القاضي في لواء الوحدة0

الصورتين للزميلين الحميمين لي الملازم محمود سالم من معربان يافع والملازم أول الحياني من إب تم تصفيتهم في أبين.

للاشتراك في قناة موقع “يمنات” على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى